فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الإيضاح:

{وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ} أي واذكر لقومك صبر أيوب حين نادى ربه وقال: رب إنى أصبت بالمرض، وتفرق الأهل وضياع الولد.
ومن حديث مس الشيطان له ما روى- إن الشيطان وسوس إليه فأعجب بكثرة ما له وولده ووافر صحته، فابتلاه اللّه بالأمراض والأسقام، وأضاع ماله وتفرق ولده في أنحاء البلاد، وهلك منهم من هلك فصبر على ما أصابه من أذى وما ناله من ألم ممضّ، وحسرة تقطّع نياط القلب.
ولا نعلم على وجه التحقيق قدر الزمن الذي لحقه فيه الضر ولا نوع هذا الضر، إذ القرآن لم يصرح بهذا، ولكنا نعلم على وجه لا يقبل الشك أنه لم يصب بأذى ينفر الناس منه، ويمنعهم من لقائه والجلوس معه، لأن ذلك شرط من شروط النبوة، كما أنا نعلم من وصف الدواء الآتي الذي أوحى اللّه به إليه أنه من الأمراض الجلدية التي تشفيها المياه المعدنية أو الكبريتية كما أشار إلى ذلك بقوله واصفا له الدواء: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ} أي حرك الأرض برجلك واضربها بها يخرج ينبوع من الماء تغتسل منه وتشرب، فتبرأ مما أنت فيه من المرض.
وفي هذا إيماء إلى نوع المرض الذي كان به، وأنه من الأمراض الجلدية غير المعدية كالإكزيما والحكّة ونحوهما مما يتعب الجسم ويؤذيه أشد الإيذاء لكنه ليس بقتال، وكلما تقدم الطب أمكن الطبيب أن يبين نوع هذا المرض على وجه التقريب لا على وجه التحديد- كما أن في ذلك إيماء إلى أن الماء كان من المياه الكبريتية ذات الفائدة الناجحة في تلك الأمراض، وهى كما تفيد بالاستعمال الظاهري، تفيد بالشرب أيضا كما نرى في العيون التي في البلاد التي أنشئت فيها الحمامات في أوروبا ومصر وغيرها، واستعملت مشاتى ومصحات للأمراض الجلدية والأمراض الباطنية كمياه فيشى وسويسرا وحلوان.
وقد أراد بمس الشيطان إياه بالنصب والعذاب- ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء والقنوط من الرحمة ويغريه على الكراهة والجزع، فالتجأ إلى اللّه أن يكفيه ذلك بكشف البلاء أو بالتوفيق لدفعه ورده بالصبر الجميل.
وعن أنس بن مالك: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «إن نبى اللّه أيوب عليه السلام لبث به بلاؤه ثمانى عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم واللّه لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين، قال له صاحبه وما ذاك؟ قال منذ ثمانى عشرة سنة لم يرحمه اللّه تعالى فيكشف ما به، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب: لا أدرى ما تقول، غير أن اللّه عز وجل يعلم أنى كنت أمرّ على الرجلين يتنازعان فيذكران اللّه تعالى فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر اللّه تعالى إلا في حق».
ولا شك أن هذا الحديث من أخبار الآحاد التي تصادم أسس الدين الصحيحة من أن الأنبياء يجب ألا يكون فيهم من الأمراض ما ينفر الناس منهم، لأن وظيفتهم تبليغ ما أرسلوا به إليهم، وكيف يجتمع الناس بهم ويتحدثون إليهم وهم في تلك الحال وهذا البلاء، ومن ثم فنحن نقف أمام هذه الأخبار موقف الحذر والاحتياط في قبولها أو نقطع بعدم صحتها لمخالفتها لقطعى لا شك فيه.
وكما دفع عنه سبحانه الضر أجاب لدعائه، أجاب دعاءه في أهله وولده فقال: {وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ} أي وجمعنا له أهله بعد التفرّق والتشتّت وأكثرنا نسلهم حتى صاروا ضعف ما كانوا عليه، رحمة منا وتذكرة لأولى العقول السليمة، لنعتبر ونعلم أن رحمة اللّه قريب من المحسنين، وأن مع العسر يسرا، وأن الإنسان لا يقنط من الفرج بعد الشدة:
عسى فرج يأتى به اللّه إنه ** له كل يوم في خليقته أمر

ولم يذكر لنا الكتاب الكريم ماذا كانت حاله في ماله، فنمسك عن الكلام كما أمسك.
ثم ذكر أنه رخص له سبحانه في تحلة يمينه فقال: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} أي وخذ حزمة صغيرة من ريحان أو كلأ فاضرب بها، فيكون ذلك تحلة ليمينك التي حلفتها، والكتاب لم يبين لنا علام حلف؟ وعلى من حلف؟ ويذكر الرواة أنه حلف على زوجه رحمة بنت إفرائيم، وقد كانت ذهبت لحاجة فأبطأت، فحلف ليضربنها إن برىء مائة ضربة، فرخص له ربه أن يأخذ حزمة صغيرة ويضربها بها، وبذا يتحقق البر في يمينه رحمة به وبها، لحسن خدمتها له وقيامها بواجباته المنزلية أثناء مرضه.
وفي هذا مخرج وفرج لمن اتقى اللّه وأناب إليه، ولهذا قال عز اسمه: {إِنَّا وَجَدْناهُ صابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي إنا وجدنا أيوب صابرا على ما أصابه في النفس والأهل والمال من أذى، فجازيناه بما فرّج كربته، وأذهب لوعته، وليس في الشكوى إلى اللّه إخلال بالصبر، وليس فيه شيء من الجزع، فهو كتمنى العافية وطلب الشفاء.
وقد روى أنه كان يقول كلما أصابته مصيبة: اللهم أنت أخذت، وأنت أعطيت، وكان يقول في مناجاته: إلهى قد علمت أنه لم يخالف لسانى قلبى، ولم يتبع قلبى بصرى، ولم يلهنى ما ملكت يمينى، ولم آكل إلا ومعى يتيم، ولم أبت شبعان ولا كاسيا ومعى جائع أو عريان. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ}.
هو دعوة أخرى إلى النبي الكريم من اللّه سبحانه وتعالى، أن يذكر هذا الذي بذكره له ربّه من أمر عبد من عباده الصالحين، ونبى من أنبيائه المقربين، هو أيوب عليه السلام.
والذي يدعى النبي- عليه الصلاة والسلام- إلى تذكره، والوقوف على موضع العبرة والعظة منه، من أمر أيوب- عليه السلام- هو ضراعته لربه، ولجوؤه إليه، فيما مسه من ضرّ.
وأيوب- عليه السلام- إنما يقف على حدود هذا الأدب النبوي الرفيع، حين يرفع إلى اللّه- سبحانه- شكواه مما به، ولا يسأل العافية، وكشف الضر.
فذلك إلى اللّه سبحانه وتعالى، حسب مشيئته وإرادته في عبده.. فقد يكون هذا البلاء خيرا له من العافية.. وإنه كبشر، يشكو إلى ربه ما يجد من آلام، ويفوض الأمر إليه سبحانه فيما يريد به.. ولو أنه استطاع ألا يشكو لفعل، فاللّه سبحانه وتعالى أعلم بحاله، ولكنها، أنّات موجوع، وزفرات محموم! {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ}. والنّصب، كالنّصب، وهو الرهق والتعب، والعذاب: الألم الناجم عن هذا التعب.
وفى إسناد المسّ إلى الشيطان، إشارة إلى أن هذا الذي نزل بأيوب، هو من الأسباب المباشرة، التي تجىء من النفس الأمارة بالسوء، ومثل هذا ما كان من موسى عليه السلام، حين قتل المصري فقال: {هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ}.
قوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ}.
وهذا جواب الحق سبحانه وتعالى على ما سأله أيوب، ولم يفصل بين السؤال والجواب فاصل، للإشارة إلى أن الإجابة كانت متصلة بالسؤال والطلب، من غير تراخ.. فما هو إلا أن سأل، حتى وجد ما طلب حاضرا.
وهذا يشير إلى أن أيوب صبر زمنا طويلا لا يشكو، فلما شكا، أزال اللّه سبحانه شكاته.
والركض: الجري، والمراد به الضرب بالرجل على الأرض بقوّة، حيث أن الرّجل تخدّ الأرض وتضربها أثناء الجري.
وقد ضرب أيوب برجله الأرض، كما أمره ربّه، فتفجر نبع من الماء! وماذا يعمل أيوب بهذا الماء؟ هكذا وقف عليه متسائلا.. فكشف له ربّه عمّا وراء هذا الماء، فقال له: {هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ}.. إنه ماء عذب، بارد سائغ للشاربين.. فاغتسل به، واشرب منه.
قوله تعالى: {وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ}.
أي وهبنا له أهله، الذين كانوا قد نفروا منه، وتخلّوا عنه أثناء محنته، فلما لبس ثوب العافية، وخرج من ضباب المحة، عاد إليه أهله، وعاد إليه الغرباء، فكانوا له مثل أهله، تقرّبا إليه، وتودّدا له، إذ أفاض اللّه سبحانه تعالى عليه من الخير، ما جعل العيون تتطلع إليه، والآمال تتجه نحوه وهكذا الناس.
والناس من يلق خيرا قائلون له ما يشتهى ولأمّ المخطئ الهبل وفى التعبير بالهبة عن عودة أهله وغير أهله إليه في قوله تعالى: {وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} في هذا التعبير إشارة إلى أن هذا التحول في حال أيوب من تلك العزلة الموحشة بينه وبين أهله وغير أهله، إلى إقبال القريب والبعيد عليه، وتوددهم له- إنما كان هبة من هبات اللّه له، ورحمة من رحماته، على هذا العبد الذي ابتلى هذا الابتلاء العظيم، فصبر راضيا بأمر اللّه سبحانه وتعالى فيه.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ} (10: الزمر).. وفى ذلك ذكرى وموعظة لأولى الألباب، الذين يأخذون العبر من الأحداث التي تمر بهم، أو بالناس من حولهم.
قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}.
الضّغث: الخليط من كل شىء.. والمراد به هنا، مجموعة من العيدان الدقيقة، من حطب أو غيره.. والحنث: الذنب المؤثم، واليمين الغموس.
والآية معطوفة على قوله تعالى: {وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ} الذي هو اعتراض بين الآيتين اللتين يحملان خطابا من اللّه سبحانه وتعالى إلى أيوب. فالأمر الموجّه من اللّه سبحانه وتعالى إلى أيوب هو: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ}.. وقد جاء قوله تعالى: {وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} بين الأمرين- إشارة إلى أن هذه الأوامر ليست تكليفا، كما هو الشأن في الأمر، وإنما هي دعوة إلى تناول هذا العطاء الكريم من ربّ كريم، إلى عبده الصابر الشكور.. فهذان الأمران، يحملان هبات من عند اللّه، كما يحمل الخبر في قوله تعالى: {وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ}.
فإن قوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} يحمل إليه الشفاء والعافية، وقوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} يحمل إليه الوفاء بيمينه، ويدفع عنه الحرج.. إذ كان قد حلف وهو في حال مرضه أن يضرب امرأته، مائة سوط على أمر خرجت به عن رأيه.. وكان من لطف اللّه به وبامرأته، أن جعل تحلّة يمينه بأن يضربها بعرجون يحمل مائة أو أكثر من الشماريخ!!. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)} هذا مَثَل ثانٍ ذُكّر به النبي صلى الله عليه وسلم إسوة به في الصبر على أذى قومه والالتجاء إلى الله في كشف الضر، وهو معطوف على {واذكر عبدنا داود ذا الأيد} [ص: 17] ولكونه مقصودًا بالمَثل أعيد معه فعل {اذْكُر} كما نبهنا عليه في قوله: {واذكر عبدنا داود} [ص: 17]، وقد تقدم الكلام على نظير صدر هذه الآية في سورة الأنبياء.
وترجمة أيوب عليه السلام تقدمت في سورة الأنعام.
وإذ كانت تعدية فعل {اذكر} إلى اسم أيوب على تقدير مضاف لأن المقصود تذكّر الحالة الخاصة به كان قوله: {إذ نادى ربّه} بدل اشتمال من أيوب لأن زمن ندائه ربَّه مما تشتمل عليه أحوال أيّوب.
وخص هذا الحال بالذكر من بين أحواله لأنه مظهر توكّله على الله واستجابة الله دعاءه بكشف الضر عنه.
والنداء: نداء دُعاء لأن الدعاء يفتتح بيا رب، ونحوه.
و{أنِّي مسَّنِي الشيطانُ} متعلق ب {نادى} بحذف الباء المحذوفة مع أن، أي نادى: بأنّي مسني الشيطان، وهو في الأصل جملة مبيّنة لجملة {نادى ربَّهُ} ولولا وجود أن المفتوحة التي تصيِّر الجملة في موقع المفرد لكانت جملة مبينة لجملة {نادى} ولما احتاجت إلى تقدير حرف الجر ليتعدّى إليها فعل {نادى} وخاصة حيث خَلَت الجملة من حرف نداء.
فقولهم: إنها مجرورة بباء مقدرة جرى على اعتبارات الإِعراب تفرقة بين موقع أنَّ المفتوحة وموقع إنَّ المكسورة ولهذا الفرق بين الفتححِ والكسرِ اطّرد وجهَا فتححِ الهمزة وكسرِها في نحو خيرُ القَول أني أحمد.
وقد ذكرنا في قوله تعالى: {فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين في سورة} [الأنفال: 9] رأينا في كون أن المفتوحة الهمزة المشددة النون مركبة من أَنْ التفسيرية وأنَّ الناسخة.
والخبر مستعمل في الدعاء والشكاية، كقوله: {رب إني وضعتها أنثى} [آل عمران: 36]، وقد قال في آية سورة [الأنبياء: 83] {أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} والنُصْب، بضم النون وسكون الصاد: المشقة والتعب، وهي لغة في نَصَب بفتحتين، وتقدم النَصَب في سورة الكهف.
وقرأ أبو جعفر {بِنُصُبٍ} بضم الصاد وهو ضم إتباع لضمّ النون.
والعذاب: الألم.
والمراد به المرض يعني: أصابني الشيطان بتعَب وألم.
وذلك من ضرّ حل بجسده وحاجة أصابته في ماله كما في الآية الأخرى {أني مسني الضر} [الأنبياء: 83].
وظاهر إسناد المسّ بالنُّصب والعذاب إلى الشيطان أن الشيطان مسّ أيوب بهما، أي أصابه بهما حقيقة مع أن النصب والعذاب هما الماسان أيوب، ففي سورةَ [الأنبياء: 83] {أني مسني الضر} فأسند المسّ إلى الضر، والضرّ هو النصب والعذاب.
وتردّدت أفهام المفسرين في معنى إسناد المسّ بالنُّصب والعذاب إلى الشيطان، فإن الشيطان لا تأثير له في بني آدم بغير الوسوسة كما هو مقرر من مُكرر آيات القرآن وليس النُّصب والعذاب من الوسوسة ولا من آثارها.
وتأولوا ذلك على أقوال تتجاوز العشرة وفي أكثرها سماجة وكلها مبني على حملهم الباء في قوله: {بِنُصبٍ} على أنها باء التعدية لتعدية فعل {مَسَّنِي} أو باء الآلة مثل: ضربه بالعصا، أو يؤول النُّصب والعذاب إلى معنى المفعول الثاني من باب أعطى.
والوجه عندي: أن تحمل الباء على معنى السببية بجعل النُّصْب والعذاب مسببين لمسّ الشيطان إياه، أي مسنّي بوسواس سببه نُصْب وعذاب، فجعل الشيطان يوسوس إلى أيوب بتعظيم النُّصْب والعذاب عنده ويلقي إليه أنه لم يكن مستحقًا لذلك العذاب ليلقي في نفس أيوب سوء الظن بالله أو السخط من ذلك.
أو تحمل البَاء على المصاحبة، أي مسّني بوسوسة مصاحبة لضرّ وعذاب، ففي قول أيوب {أني مسَّني الشيطانُ بنُصببٍ وعذابٍ} كناية لطيفة عن طلب لطف الله به ورفع النُّصب والعذاب عنه بأنهما صارا مدخلًا للشيطان إلى نفسه فطلب العصمة من ذلك على نحو قول يوسف عليه السّلام: {وإلاَّ تصرف عنّي كيدَهن أَصْبُ إليهن وأكنْ من الجاهلين} [يوسف: 33].